فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: لا ترجع إليهم أبصارهم، وأصل الطرف: تحريك الأجفان، وسميت العين طرفًا، لأنه يكون بها، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ** حتى يُوارِي جارتي مأواها

{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} الهواء في اللغة: المجوف الخالي الذي لم تشغله الأجرام.
والمعنى: أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم، لما شاهدوا من الفزع والحيرة والدهش، وجعلها نفس الهوى مبالغة، ومنه قيل للأحمق والجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه ولا قوّة.
وقيل: معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر.
وقيل: المعنى: أن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير.
وقيل: المعنى: أفئدتهم ذات هواء، ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغًا} [القصص: 10]، أي: خاليًا من كل شيء إلاّ من همّ موسى.
{وَأَنذِرِ الناس} هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس.
والمراد: الناس على العموم؛ وقيل: المراد: كفار مكة.
وقيل: الكفار على العموم.
والأوّل أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضًا للمسلم.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [ياس: 11].
ومعنى {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يوم القيامة، أي: خوّفهم هذا اليوم، وهو يوم إتيان العذاب، وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب؛ لأن المقام مقام تهديد.
وقيل: المراد: به: يوم موتهم؛ فإنه أوّل أوقات إتيان العذاب؛ وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثانٍ لأنذر {فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} المراد بالذين ظلموا ها هنا: هم الناس، أي: فيقولون.
والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم، هذا إذا كان المراد بالناس: هم الكفار.
وعلى تقدير كون المراد بهم: من يعمّ المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار {ربنا أخرنا} أمهلنا {إلى أجل قريب} إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} أي: دعوتك لعبادك على ألسن أنبيائك إلى توحيدك {وَنَتَّبِعِ الرسل} المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال، وإنما جمع الرسل؛ لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة؛ فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة، فقال: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} أي: فيقال لهم هذا القول توبيخًا وتقريعًا، أي: أولم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم مالكم من زوال من دار الدنيا.
وقيل: إنه لا قسم منهم حقيقة.
وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات، وإخلادهم إلى الحياة الدنيا.
وقيل: قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]، وجواب القسم {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} وإنما جاء بلفظ الخطاب في {مالكم من زوال} لمراعاة {أقسمتم} ولولا ذلك لقال: مالنا من زوال.
{وَسَكَنتُمْ في مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} أي: استقررتم، يقال: سكن الدار وسكن فيها، وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله، والعصيان له {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} قرأ عبد الرحمن السلمي {نبين} بالنون والفعل المضارع، وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي، أي: تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب، وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده، أي: تبين لكم فعلنا العجيب بهم {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحًا لكم وتقريرًا وتكميلًا للحجة عليكم.
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} الجملة في محل نصب على الحال، أي: فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في ردّ الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم، الذي استفرغوا فيه وسعهم {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: وعند الله جزاء مكرهم، أو وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، على أن يكون المكر مضافًا إلى المفعول، قيل: والمراد بهم: قوم محمد صلى الله عليه وسلم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله أو نفيه.
وقيل: المراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء، فاتخذ لنفسه تابوتًا، وربط قوائمه بأربعة نسور.
{وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} قرأ عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي {وإن كاد مكرهم} بالدال المهملة مكان النون.
وقرأ غيرهم من القراء {وإن كان} بالنون.
وقرأ ابن محيص، وابن جريج، والكسائي {لتزول} بفتح اللام على أنها لام الابتداء، وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود.
قال ابن جرير: الاختيار هذه القراءة، يعني: قراءة الجمهور؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة، فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة.
واللام هي الفارقة، وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدّته، أي: وإن الشأن كان مكرهم معدًّا لذلك.
قال الزجاج: وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه.
وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين: أحدهما أن تكون {إن} هي المخففة من الثقيلة، والمعنى كما مرّ.
والثاني: أن تكون نافية، واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] والمعنى: ومحال أن تزول الجبال بمكرهم، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر، فالجملة على هذا حال من الضمير في {مكروا} لا من قوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} قال: هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} قال: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مُهْطِعِينَ} قال: يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف {مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ} قال: الإقناع رفع رؤوسهم {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} قال: شاخصة أبصارهم {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ليس فيها شيء من الخير، فهي كالخربة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مهطعين} قال: مديمي النظر.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة {مهطعين} قال: مسرعين.
وأخرج هؤلاء عن قتادة في قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} قال: ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يقول: أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} هو يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} قال: عما أنتم فيه إلى ما تقولون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ} قال: بعث بعد الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن في قوله: {وَسَكَنتُمْ في مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} قال: عملتم بمثل أعمالهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} يقول: ما كان مكرهم {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} يقول: شركهم كقوله: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 90].
وأخرج عبد بن حميد، ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري عن عليّ ابن أبي طالب، أنه قرأ هذه الآية: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} ثم فسرها فقال: إن جبارًا من الجبابرة قال: لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين، ثم جعل في وسطه خشبة، ثم ربط أرجلهنّ بأوتاد، ثم جوّعهنّ، ثم جعل على رأس الخشبة لحمًا، ثم دخل هو وصاحبه في التابوت، ثم ربطهنّ إلى قوائم التابوت، ثم خلي عنهنّ يردن اللحم، فذهبن به ما شاء الله، ثم قال لصاحبه: افتح فانظر ماذا ترى، ففتح فقال: انظر إلى الجبال كأنها الذباب، قال: أغلق فأغلق، فطرن به ما شاء الله، ثم قال: افتح ففتح، فقال: انظر ماذا ترى، فقال: ما أرى إلاّ السماء، وما أراها تزداد إلاّ بعدًا، قال: صوّب الخشبة فصوّبها فانقضت تريد اللحم، فسمع الجبال هدّتها فكادت تزول عن مراتبها.
وقد روي نحو هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في الدرّ المنثور. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ}: مفعولٌ ثانٍ ل {أَنْذِرْ}، أي: خَوِّفْهم عذابَ يومٍ، كذا قدَّره أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ يَؤُول إلى قولِك: أَنْذِرْ عذابَ يومِ يأتيهم العذابُ، فلا حاجةَ إلى ذلك. ولا جائزٌ أن يكونَ ظرفًا له، لأنَّ ذلك اليومَ لا إنذارَ فيه، سواءً قيل: إنه يومُ القيامةِ، أو يومٌ لهلاكهم، أو يومَ يلقاهم الملائكةُ. وقوله: {نُجِبْ} جوابُ الأمر.
قوله: {أَوَلَمْ تكونوا} قال الزمخشريُّ: على إرادةِ القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بَطَرًا وأَشَرًا، وأَنْ يقولوه بلسان الحالِ حيث بَنَوْا شديدًا وأمَّلوا بعيدًا.
و{ما لكم} جوابُ القسمِ، وإنما جاء بلفظِ الخطابِ، لقوله: {أَقْسَمْتُمْ} ولو جاء بلفظِ المُقْسِمين لقيل: ما لنا. وقَدَّر الشيخ ذلك القولَ من قولِ الله تعالى أو الملائكةِ، أي: فيقال لهم: أو لم تكونوا. وهو عندي أظهرُ مِن الأول، أعني جَرَيانَ القولِ مِنْ غيرهم لا منهم.
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}.
قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن}: أصلُ سَكَن التعدِّي ب {في} كما في هذه الآيةِ، وقد يتعدَّى بنفسه. قال الزمخشريُّ: السُّكْنَى مِن السكونِ الذي هو اللُّبْث، وأصلُ تَعَدِّيه ب {في} كقولك: قَرَّ في الدارِ، وأقامَ فيها، وغَنِي فيها، ولكنه لمَّا نُقِل إلى سكونٍ خاص تصَرَّفَ فيه، فقيل: سَكَنَ الدارَ كما قيل: تبوَّأَها وأَوْطَنها، ويجوز ان يكونَ مِن السُّكون، اي: قَرُّوا فيها واطمأنُّوا.
قوله: {وتَبَيَّنَ} فاعلُه مضمرٌ لدلالةِ الكلامِ عليه، أي: حالُهم وخبرُهم وهلاكُهم. و{كيف} نَصْبٌ بفَعَلْنا، وجملةُ الاستفهامِ ليست معمولةً ل {تَبَيَّن}؛ لأنه من الأفعال التي لا تُعَلَّق، ولا جائزٌ أن يكونَ {كيف} فاعلًا،؛ لأنها: إمَّا شرطيةٌ أو استفهاميةٌ، وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدَّمه، والفاعلُ لا يتقدَّم عندنا.
وقال بعض الكوفيين: إنَّ جملةَ {كيف فَعَلْنا} هو الفاعلُ، وهم يُجيزون أن تكونَ الجملةُ فاعلًا، وقد تقدم هذا قريبًا في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35].
والعامَّةُ على {تَبَيَّن} فعلًا ماضيًا. وقرأ عمر لن الخطاب والسُّلَمي في روايةٍ عنه: {ونُبَيِّنَ} بضمِّ النونِ الأولى والثانية، مضارع بَيَّن، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ، أي: ونحنُ نبيِّن. وقرأ السُّلَميُّ- فيما نقل المهدويُّ- كذلك إلاَّ أنه سَكَّن النونَ للجزمِ نَسَقًا على {تكونوا}، فيكونُ داخلًا في حيِّز التقدير.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}.
قوله تعالى: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}: يجوز أن يكونَ هذا المصدرُ مضافًا لفاله كالأولِ بمعنى: أنَّ {مَكْرَهُمْ} الذي مكروه جزاؤُه عند الله تعالى، أو للمفعولِ، بمعنى: أنَّ عند الله مَكْرَهم الذي يَمْكُرُهم به، أي: يُعَذِّبهم. قالهما الزمخشري. قال الشيخ: وهذا لا يَصِحُّ إلا إنْ كان مَكَرَ يتعدَّى بنفسِه كما قال هو، إذ قدَّر: يمكرهم به، والمحفوظ أنَّ مَكَر لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسِه. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30]، وتقول: زيدٌ ممكورٌ به، ولا يُحْفظ زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا.
قوله: {لِتَزُولَ} قرأ العامَّةُ بكسر اللام، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه، أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ، وفي {كان} حينئذٍ قولان، أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: {وما كان مَكْرُهم}. القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلًا لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدًّا لذلك. وقال ابن عطية: ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديدًا، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ.
والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدًّا لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي.
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفيًا وإثباتًا.
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي {إنْ} وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة {وإن كاد مكرهم لَتزول} كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون {كان} دالًا فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ.
وقُرِء {لَتَزُوْل} بفتح اللامين. وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام كي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}.
أفسدوا في أول أُمورهم، وقصَّروا في الواجب عليهم، ولم يكن للخَلَلِ في أحوالهم جبران، ولا لعذرهم قبول لتصحَّ الحجة عليهم، فافتضح المجرم منهم، وخاب الكافر، وحُقَّ الحكمُ عليهم.
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}.
أحللنا بهم العقوبة، وأشهدناكم ذلك مما اعتبرتم، وجريتم على منهاجهم، وفعلتم مثلَ فِعْلِهم، وبإمهالنا لكم اغتررتم... فانْتَظِرَوا منَّا ما عاملناكم به جزاءً لكم على ما أسلفتم.
ويقال إن معاشرةَ أهل الهوى والفسق ومجاورتَهم مُشَارَكةٌ لهم في فِعْلِهم، فيستقبلُ فاعلُ ذلك استقبالَهم، ومَنْ سَلَكَهُم ينخرط في التردِّي نحو وَهْدَةِ هلاكهِ مثْلَهم. اهـ.